يشير مفهوم " الوضع البشري" إلى مختلف الشروط و المحددات التي يتأطر ضمنها وجود الإنسان ومصيره، أي العوامل التي تتدخل في تحديد طبيعة هذا الوجود وتسمح بفهم أو معرفة حقيقة الكائن البشري ...فالإنسان ،وإن كان في جانب منه يتحدد ككائن طبيعي ، يمثل بالأساس ذاتا متميزة عن الكائنات الأخرى بفضل ما يتوفر عليه من مقومات فوق طبيعية يعكسها بعده الفكري والأخلاقي . وهذا التكوين الإزدواجي المعقد يجعل وجود الإنسان مرهونا بسلسلة من الضرورات أو الحتميات التي قد تكبل إرادته ، لكن الإنسان يظل قادرا على الإنفلات من قبضة الضرورة وتحقيق التباعد أو التعالي عن الشروط الموضوعية لوجوده (مفهوم الشخص)...ومن المؤكد أن النظرة إلى الإنسان لا تكتمل إلا بمراعاة بعده العلائقي أو الإجتماعي . فهو لم يوجد ليعيش وحيدا، ولا يتحدد كذات معزولة عن الآخرين، بل يدخل مع غيره في علاقات متنوعة يستلزمها العيش ضمن المجموعة البشرية ، علاقات قد تتسم بالتكامل عندما يكون الغير مكملا لوجود الأنا ومدعما له، أو بالتعارض والتنافر حين يصير الغير مهددا لوجود الأنا وسالبا لمقوماته (مفهوم الغير)...واخيرا، فالإنسان ذو بعد زمني يتجلى في ارتباطه بالأوضاع التاريخية وتفاعله مع التغيرات الزمنية مما يجعل منه سيرورة زمنية ذات طابع فردي أو جماعي ، وهو ما يعني أن التاريخ يمثل محددا أساسيا في بلورة الوجود الإنساني (مفهوم التاريخ ).
هكذا، فبالنظر إلى تعدد و اختلاف المستويات التي تحكم الوجود الإنساني، فإن التفكير في مفهوم الوضع البشري يقتضي استحضار عدة مفاهيم تشكل المقومات أو العناصر الأساسية التي يتأطر ضمنها ..
فكيف تتحدد مفاهيم الشخص والغير والتاريخ باعتبارها مكونات أساسية للوضع البشري ؟
مفهـــوم الشخــص
حول المفهوم:
1 - يرتد لفظ الشخص في اللغة العربية إلى فعل "شخص" الذي يحيل على معاني الظهور والبروز والعظمة كما يشير إلى ذلك معجم "لسان العرب" : " الشخص سواد الإنسان وغيره تراه من بعيد..والشخص كل جسم له ارتفاع وظهور، والمراد إثبات الذات "...والملاحظ هو أن هذا التحديد لا يقيم تمييزا دقيقا بين الإنسان وباقي الكائنات ما دام يجعل من الشخص كل ما أمكن رؤيته من بعيد أو كل جسم له ارتفاع يسمح له بالبروز.
في الفرنسية ترجع كلمةPersonne إلى اللفظة اللاتينية Persona التي تعني القناع الذي يضعه الممثل على وجهه لكي يتقمص الدور المسند إليه في المسرحية..ومن ثم يغلب على الشخص معنى الظاهري والرمزي والمتخيل، ويتقابل بذلك مع الباطني والحقيقي والواقعي.
2 - في المجال الفلسفي يتحدد مفهوم الشخص كذات عاقلة أو واعية وحرة ومسؤولة، أي يرتبط معناه بشكل أساسي بالإنسان بوصفه متميزا عن باقي الموجودات بما يختص به من وعي وإرادة ومسؤولية. وقد توجه الإهتمام منذ بدايات التفلسف عند اليونانيين إلى التفكير في ماهية الإنسان من خلال تحديد الخصائص التي أصبح الإنسان بفضلها متميزا عن باقي الكائنات الحية الأخرى، الأمر الذي سيجعل مفهوم الشخص يحمل طابعا ميتافيزيقيا لكونه يشير إلى المحددات الفوق طبيعية التي تميز الإنسان مستبعدا في نفس الوقت العناصر الطبيعية التي تخص الكائنات الأخرى....
وفي هذا السياق يبرز التصور الأفلاطوني القائم على ثنائية الجسد والنفس، حيث تمثل النفس بسبب طبيعتها اللامادية الثابتة والخالدة جوهرا للذات مقابل الجسد المادي الذي يعتريه التغير والزوال..كما أن "أرسطو" قد قدم تصورا لحقيقة الإنسان معتمدا معيار التمييز بين ما يشترك فيه الإنسان مع الحيوان (تغذية – تنفس – تناسل...)، وبين ما يختص به الإنسان ويصلح بالنتيجة أساسا لتعريفه (العقل أو النطق) منتهيا إلى صيغته المشهورة بأن الإنسان "حيوان ناطق".
غير أن التصور اليوناني حول الإنسان لم يبلغ مستوى التفكير في كرامة و قيمة الإنسان في ذاته و بغض النظر عن مكانته الاجتماعية و السياسية. ومرد ذلك إلى الموقف الإقصائي للثقافة اليونانية تجاه الأجانب و العبيد كفئة لا تتمتع بحقوق مدنية، مقارنة مع المواطن اليوناني. ومن ثم لم يكن غريبا أن نصادف عند فلاسفة اليونان مواقف لا تخلو من نزعة النبذ والإحتقار تجاه الأجنبي والعبد والمرأة.
أما في العصور الحديثة ،والتي تميزت بصحوة فلسفية مثلتها فلسفة الأنوار، فسنجد أن مفهوم الإنسان باعتباره شخصا يتوفر على وعي و إرادة و حرية و مسؤولية في ذاته قد بدأ في التبلور بداية مع الفلسفة الديكارتية قبل أن تكتمل هذه النظرة مع فلسفة "كانط" في القرن الثامن عشر.... ففي سياق التصور الديكارتي القائم على الشك المنهجي و معيار البداهة و الوضوح العقليين، ستظهر فكرة الإنسان العاقل الذي يستطيع بلوغ معرفة يقينية استنادا إلى عقله فقط ودون الخضوع لوصاية خارجية. ففكرة "الكوجيطو" تنطوي على اعتبار الإنسان كائنا جوهره التفكير و الوعي، الشيء الذي يضفي عليه مكانة تتمثل في حريته أو استقلاله بذاته و تشكيله لماهية متميزة عن الكائنات الأخرى...و مع "كانط" ستكتمل النظرة الحديثة إلى الإنسان من خلال إضفاء طابع أخلاقي على طبيعة الشخص و تصرفاته. فالإنسان في التصور الكانطي يتحدد، ليس فقط بالعقل النظري الذي يجعل منه كائنا واعيا يستطيع إنتاج معارف يقينية كما رأى "ديكارت"، بل يتحدد أساسا بالعقل العملي الأخلاقي الذي يملي عليه المبادئ الأخلاقية التي يجب عليه أن يلتزم بها، وأهم هذه المبادئ القاعدة الأخلاقية التي تدفع الإنسان إلى السعي وراء الخير المطلق عندما يعتبر نفسه و الآخرين غايات لا مجرد وسائل، وهذا ما تعبر عنه قولة "كانط": " تصرف دائما بشكل تعامل بمقتضاه الإنسانية، في شخص غيرك مثلما في شخصك، باعتبارها غاية لا وسيلة ".